
| يوسف يعقوب
لماذا نكتب؟
في أعماق الروح الإنسانية، حيث يتشابك الفكر بالشعور، تنبثق الكتابة كحاجة وجودية، كضوء يتسلل إلى أروقة العقل المظلمة، وكصوت يعلو فوق صخب العالم ليُخلِّد الأفكار، ويُدوّن المشاعر، ويمنح الوجود بُعدًا آخر يتجاوز العابر والمؤقت. إن الكتابة ليست مجرد حبر يُسكب على ورق، بل هي امتداد لروحٍ تتوق إلى البقاء، وحوارٌ داخلي يفيض صدقًا، ومساحة نبوح فيها بما يختلج في أعماقنا حين يعجز اللسان عن النطق.
الكتابة كضرورة وجودية
لماذا نكتب؟ سؤال يحمل في طياته عمقًا فلسفيًا، إذ أن الكتابة ليست ترفًا ولا عادةً عابرة، بل هي أشبه بوظيفة عضوية للعقل والروح. إنها الأداة التي من خلالها نحاول فهم أنفسنا وفهم العالم من حولنا. ففي اللحظة التي تُلامس فيها يد الكاتب الورقة، يبدأ الكون في التشكل من جديد، وتصبح الكلمات وسيلةً لإعادة صياغة الواقع، أو ربما الهروب منه إلى عوالم أكثر سكينة وانسجامًا.
حين نكتب، نُلقي بذواتنا في مجازٍ لغوي يعكس اضطراباتنا وأحلامنا، آلامنا وآمالنا. نكتب لأن الحياة تفيض بالمشاعر التي تحتاج منفذًا، لأن الفوضى التي تعصف بداخلنا لا تُحتمل إلا إذا نُظِّمت داخل جمل متراصة، تحمل بعضًا من النظام وسط عشوائية العالم.
الكتابة كحوار مع الزمن
إننا نكتب لنقاوم النسيان. الزمن، ذلك الطاغية الذي يمضي بلا هوادة، لا يترك لنا سوى الذكريات، لكن الكتابة تمنحنا فرصة لمراوغته، لتجميد لحظة معينة في سياق اللغة، فتُصبح الكلمات شاهدًا على وجودنا. عبر الكتابة، نترك أثرًا لا يُمحى، نصنع لأنفسنا امتدادًا في ذاكرة الآخرين، ونحاور المستقبل بحروف تحمل صدى أرواحنا.
ننظر إلى الكتب القديمة، إلى المخطوطات التي صمدت في وجه العصور، فنجد أن ما كُتب منذ مئات السنين لا يزال قادرًا على أن يلامس أرواحنا اليوم. هذه هي قوة الكتابة؛ إنها جسر بين الماضي والحاضر، بين الأحياء والأموات، بين الذات والعالم.
الكتابة كتحرر نفسي
هناك لحظات من الاختناق لا يمكن تجاوزها إلا بمداد القلم. إن الكتابة، في جوهرها، فعل تحرر. إنها صرخة مكتومة تجد طريقها إلى النور، وهي ملاذ نلجأ إليه عندما تضيق بنا الحياة. فالكاتب، في لحظات البوح، أشبه بمن يسير في طريق غير مرئي، لكنه محفوف بالأمل؛ يفرغ آلامه على الورق كمن ينثر عبئًا ثقيلًا كان يعوقه عن المضي قدمًا.
ليس غريبًا أن تكون الكتابة أحد أشكال العلاج النفسي، فهي تتيح للإنسان مواجهة مخاوفه وأشباحه الداخلية، وتسمح له بإعادة ترتيب ذاته المبعثرة، وبناء هوية جديدة قوامها الكلمات. حين نكتب، نواجه أنفسنا بصدق، نُفكك عقدنا المتراكمة، ونمنح مشاعرنا الشرعية الكاملة للوجود.
الكتابة كبحث عن الحقيقة
منذ الأزل، كانت الكتابة وسيلة الإنسان للبحث عن الحقيقة. الفلاسفة، العلماء، والأدباء جميعهم استخدموا الكتابة ليخوضوا حوارات فكرية مع ذواتهم ومع العالم. نكتب لأننا نبحث عن إجابات، عن معنى وسط الفوضى، عن يقين وسط الشك. الكتابة هي المساحة التي نطرح فيها الأسئلة الكبرى دون خوف، وهي الفضاء الذي نختبر فيه الأفكار قبل أن نصدقها أو نكفر بها.
إن الكتابة تُحرِّر العقل من قيود الجمود، وتجعل الفكر حيًا، متحركًا، قادرًا على التغير والنمو. إنها ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل أداة لصياغة العالم وفق رؤيتنا الخاصة. عبر الكتابة، نعيد تعريف المفاهيم، نُعيد تفسير الحياة، ونضع بصمتنا الخاصة على الوجود.
الكتابة كفنٍ خالد
قد تفنى الأجساد، وقد تنسى الأسماء، لكن الكلمات تبقى. الكتابة هي الفن الذي يتحدى الفناء، هي الخلود الذي ينشده الإنسان منذ الأزل. نكتب لنعيش أكثر من حياة، لنحيا في ذاكرة من سيأتون بعدنا، لنُخلِّد أفكارنا كما خلَّد سقراط وأفلاطون ودانتي وتولستوي وغيرهم من العظماء كلماتهم.
كل كلمة تُكتب هي نبضٌ في قلب الزمن، وكل نص يولد يحمل في طياته امتدادًا لكاتبه، يصنع له حضورًا لا يزول. إن الكاتب لا يموت حين تنتهي حياته، بل حين تُنسى كلماته، لذا نكتب كي لا نُنسى، نكتب كي يظل صوتنا مسموعًا حتى بعد صمتنا الأبدي.
ماذا تضيف الكتابة للعالم؟
الكتابة ليست مجرد انعكاس للفكر الإنساني، بل هي القوة التي تشكل العالم نفسه. إنها تضيف إلى الحضارة تراكمًا معرفيًا لا ينضب، تُسلط الضوء على المظلومين، تُعبّر عن الأفكار التي لم يُنطق بها بعد، وتُشعل شرارة التغيير في النفوس. من خلال الكتابة، يتحدى الإنسان الجهل، ينشر الجمال، ويخلق مساحات للحوار بين الثقافات المختلفة.
الكتابة هي المرآة التي يرى فيها العالم ذاته، وهي الأداة التي يستخدمها البشر لإعادة تعريف قيمهم وأحلامهم. كل كتاب يُكتب، كل مقال يُنشر، كل خاطرة تُسطر، هي إضافة إلى النسيج الإنساني، تزرع بذور التغيير، وتمنح الأجيال القادمة نافذة تطل منها على فكر من سبقها. لذا، حين نكتب، نحن لا نعبر عن أنفسنا فقط، بل نساهم في تشكيل الوعي الجمعي، ونترك أثرًا لا يُمحى في رحلة الإنسان عبر الزمن.
الخاتمة: لماذا نكتب؟
نكتب لأننا بشر، لأن الكتابة جزء من جوهرنا العميق. نكتب لنقاوم العدم، لننقش ذواتنا في نسيج الزمن، لنبحث عن إجابات، لنحاور أنفسنا والعالم. نكتب لأن الحياة تحتاج إلى من يرويها، إلى من يُعيد تشكيلها بالكلمات، إلى من يمنحها بعدًا آخر لا يدركه إلا من امتلك شغف الحروف.
إن الكتابة ليست مجرد مهارة، بل هي امتداد للروح، ورحلة في أعماق الذات. كل كلمة تُكتب هي خطوة نحو الخلود، وكل نص يولد هو صدى لحياة عشناها أو حلمنا بها. فهل نكتب لنعيش، أم نعيش لنكتب؟ ربما، في النهاية، لا فرق بين الاثنين.