| يوسف يعقوب
عندما تصبح الكلمات سلاحًا: دور الأدب في الثورات والتغيير.
الكلمة بين السيف والحرية
عبر التاريخ، كانت الكلمة أداة فاعلة في تشكيل الوعي الجمعي، وسلاحًا أشد وقعًا من السيف في معارك التغيير والثورة. لم تكن الثورات تعتمد فقط على البنادق والدماء، بل كان هناك دومًا قلم يكتب، وشاعر ينشد، وروائي يرسم تفاصيل الألم والأمل. في هذا السياق، يبرز الأدب الفلسطيني كأحد أبلغ الأمثلة على كيفية تحول الكلمات إلى أسلحة تصنع الوعي وتقود الجماهير نحو الحرية.
الأدب والثورة: كيف تصنع الكلمات التغيير؟
1. الأدب كمقاومة فكرية
الثورات لا تبدأ بالسلاح، بل تبدأ بالفكرة. وكل فكرة تحتاج إلى منبر لتجسيدها، وهنا يأتي دور الأدب. فالشعر، الرواية، القصة القصيرة والمقال الأدبي ليست مجرد أشكال فنية، بل أدوات تزرع بذور التمرد في العقول. حينما قرأنا "آلام فرتر" لغوته، رأينا كيف يمكن للأدب أن يشعل ثورة في النفوس قبل أن تنطلق إلى الشوارع. وكذلك حينما كتب جورج أورويل "1984"، لم يكن يصف مجتمعًا متخيَّلًا فحسب، بل كان يفضح الاستبداد ويؤجج الرغبة في التحرر.
الأدب الفلسطيني هو نموذج بارز للمقاومة الفكرية. فقصائد محمود درويش، على سبيل المثال، لم تكن مجرد أبيات شعرية، بل كانت رصاصًا لغويًا يطلقه في وجه المحتل، يزرع في قلوب الفلسطينيين العزم على الاستمرار. عندما قال:
"على هذه الأرض ما يستحق الحياة..."
لم يكن يكتب جملة عابرة، بل كان يؤسس لمفهوم يجعل الفلسطيني يؤمن بأن أرضه ليست مجرد جغرافيا، بل وطن يستحق الدفاع عنه حتى الرمق الأخير.
2. الرواية كوثيقة تاريخية
الرواية ليست فقط أداة فنية، بل هي سجل تاريخي موازٍ، يحمل وجهات نظر المهمشين والمقموعين، ويوثق اللحظات التي يحاول المنتصرون طمسها. حين كتب غسان كنفاني "رجال في الشمس"، لم يكن يسرد مجرد قصة لاجئين فلسطينيين، بل كان يصرخ في وجه الأمة العربية قائلًا: "لماذا لم يقرعوا جدران الخزان؟". تلك الجملة لم تكن مجرد عبارة في نص أدبي، بل كانت صدمة في الضمير العربي، فضحت الصمت المخزي تجاه القضية الفلسطينية.
الأدب الفلسطيني لم يكتفِ بوصف المعاناة، بل جعلها تجربة معيشة في المخيلة الجمعية، حيث يمكن لكل قارئ أن يشعر بأنه فلسطيني، يحمل مفتاح بيته المهجور، ويتساءل كل ليلة: متى أعود؟
3. الشعر كأداة نضال
الشعر، عبر العصور، كان صوت الثورات ولسان الشعوب. فعندما ضاقت السبل بالسود في أمريكا، كان لانغستون هيوز يكتب قصائده التي تشعل الحراك. وعندما أراد الفيتناميون مواجهة الاستعمار الفرنسي، كان شعر المقاومة يُلقَّن للأطفال كجزء من المناهج الدراسية.
في فلسطين، كان فدوى طوقان، وتوفيق زياد، وسميح القاسم، وغيرهم، يكتبون قصائد ليست للقراءة فقط، بل للهتاف بها في وجه الجنود، ولتكون شعارات على الجدران، ومادة للغناء في المظاهرات. فحين قال توفيق زياد:
"أناديكم.. أشدّ على أياديكم"
لم يكن ينشد قصيدة عابرة، بل كان يمدّ يده لكل فلسطيني ليقول له: لسنا وحدنا، نحن شعب واحد، وأدبنا سلاحنا الذي لن يسقط من أيدينا.
الأدب في مواجهة السلطة: بين القمع والاستمرار
لم يكن المستبدون يومًا غافلين عن خطر الأدب. لهذا كان أول ما تفعله أي سلطة قمعية هو حرق الكتب، ومطاردة الكتّاب، ومصادرة القصائد. فهتلر، مثلًا، لم يكن يخشى المدافع بقدر ما كان يخشى الكتب التي تحرّض على التفكير، لذا أحرقها في ساحات برلين.
وفي السياق الفلسطيني، كان الاحتلال الإسرائيلي يعتقل الكتّاب والشعراء، ويحظر الكتب، ويحاول طمس الهوية الأدبية الفلسطينية، لأنه يعلم أن القلم يمكن أن يصنع انتفاضة، كما تصنعها الحجارة تمامًا.
لكن الأدب الحرّ لا يموت بالقمع، بل يزداد اشتعالًا. فكل محاولة لإخماده تجعله أكثر قوة وانتشارًا. والدليل على ذلك أن شعراء مثل محمود درويش لم يصبحوا مجرد أصوات فلسطينية، بل رموزًا عالمية للقضية، تُقرأ أشعارهم في كل لغات العالم، وتُدرَّس في الجامعات، مما يجعل القضية الفلسطينية أكثر حضورًا في الوعي العالمي.
الأدب كأداة للبقاء: كيف يحافظ الفلسطيني على هويته بالكلمات؟
إن أخطر ما يمكن أن يواجهه أي شعب مُستعمَر هو طمس هويته. فالاحتلال لا يكتفي بسرقة الأرض، بل يحاول أن يمحو اللغة، التاريخ، والذاكرة الجمعية. لكن الأدب الفلسطيني كان الحصن الأخير في مواجهة هذه المحاولة.
1. الرواية الفلسطينية وإعادة سرد التاريخ
عندما يكتب إبراهيم نصر الله في "زمن الخيول البيضاء" عن القرى الفلسطينية التي هُجّرت، فهو لا يؤلف قصة خيالية، بل يعيد بناء التاريخ المفقود، ويحفظ ذاكرة المكان، بحيث لا يستطيع المحتل الادعاء بأن هذه القرى لم تكن موجودة.
2. التراث الشعبي كخط دفاع
الأمثال، الحكايات الشعبية، الأغاني الفلكلورية، كلها أدوات للمقاومة الثقافية. فعندما تهدهد أم فلسطينية طفلها بأغنية شعبية، فهي لا تغني له فقط، بل تزرع في وعيه ذاكرة تمتد لآلاف السنين، تحميه من فقدان جذوره.
الخاتمة: هل تكفي الكلمات لصنع الثورة؟
قد يقول قائل إن الأدب وحده لا يكفي لإحداث تغيير ملموس، وأن الثورات تحتاج إلى أفعال لا مجرد كلمات. ولكن الحقيقة هي أن كل فعل يبدأ بكلمة. الثورة لا تنطلق إلا حين يتشكل وعي جديد، وهذا الوعي تصنعه الكلمات، تحمله القصص، وتؤججه الأشعار.
إن تجربة الأدب الفلسطيني تقدم لنا الدليل الأبلغ على أن الكلمة يمكن أن تكون سلاحًا لا يُهزم، وأن القصيدة قد تصمد أكثر من دبابة، وأن الرواية قد تكون أكثر خطرًا على الاحتلال من جيش كامل. فحين تكون الكلمة حقًا، وتُكتب بصدق، وتصل إلى القلوب، فإنها لا تموت، بل تتحول إلى نارٍ تحت الرماد، تنتظر لحظة الاشتعال.