هل الترجمة تفسد جمالية النصوص الأدبية؟. تحقيق استقصائي.


 | يوسف يعقوب

هل الترجمة تفسد جمالية النصوص الأدبية؟. تحقيق استقصائي.

المقدمة

الترجمة جسر يصل بين الثقافات، وأداة تتيح لنا الاطلاع على روائع الأدب العالمي بلغات لم نولد ونحن نتحدثها. لكنها في الوقت نفسه تثير تساؤلات كبرى حول مدى تأثيرها على جوهر العمل الأدبي، ومقدار ما تفقده النصوص من روحها عند انتقالها من لغة إلى أخرى. هل الترجمة تفسد جمالية النصوص الأدبية أم أنها تمنحها حياة جديدة في بيئة لغوية وثقافية مغايرة؟ هل يمكن لأي قارئ بلغته الأم أن يشعر بجماليات شكسبير كما شعر بها القارئ الإنجليزي في زمنه؟ وهل النصوص الشعرية والروايات المكتوبة بأسلوب خاص تفقد سحرها عند ترجمتها؟

في هذا التحقيق الاستقصائي، نستعرض آراء الكتاب والمترجمين، ونتعمق في أمثلة شهيرة من الأدب المترجم، ونفحص كيف تؤثر الترجمة على الموسيقى الداخلية للنص، والأسلوب الأدبي، والمعاني الخفية، ليكون حكمنا في النهاية قائماً على رؤية شاملة لا تكتفي بالافتراضات المجردة.

جمالية اللغة: هل تُنقل بالكامل أم تُضيعها الترجمة؟

جمال أي نص أدبي ينبع من عناصر متعددة، منها اختيار الكلمات، وتراكيب الجمل، والإيقاع الموسيقي، والصور المجازية، والطبقات المتعددة للمعنى. حين تُترجم هذه العناصر، فإنها تواجه تحديات كبيرة في الحفاظ على جمالها الأصلي.

1. الإيقاع الموسيقي في الشعر والرواية

اللغة ليست مجرد كلمات، بل موسيقى متناغمة، خاصة في الشعر والنثر الأدبي الذي يعتمد على الجُمل الإيقاعية. لنأخذ مثالاً قصيدة لرامبو أو لبودلير، حينما تُترجم إلى العربية أو الإنجليزية، نجد أن الموسيقى التي تميزت بها في لغتها الأصلية غالباً ما تضيع.

في الشعر، التحدي الأكبر هو الوزن والقافية. القصائد التي تعتمد على الأوزان التقليدية تفقد اتزانها حين تُترجم لأن المترجم مضطر لتغيير الكلمات لتتناسب مع اللغة المستهدفة، فتضيع الموسيقى الأصلية. لكن حتى في النثر، هناك إيقاع خفي يعتمد على التراكيب والجُمل الطويلة أو القصيرة التي توحي بأنفاس الكاتب، وهذه تتأثر بشدة عند الترجمة.

الكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي، مثلاً، معروف بجمله الطويلة التي تتخللها أفكار فلسفية متدفقة، ولكن عند ترجمتها، قد يتم اختزالها أو إعادة تركيبها، مما يغير الإيقاع الذي اختاره الكاتب الأصلي.

2. الصور المجازية والتلاعب اللغوي

من أهم التحديات التي تواجه المترجم هي الصور البلاغية التي تحمل معاني متعددة. فبعض العبارات في لغة معينة تحمل دلالات ثقافية يصعب نقلها إلى لغة أخرى. على سبيل المثال، عندما تُترجم استعارات الكاتب الياباني هاروكي موراكامي إلى الإنجليزية أو العربية، نجد أن بعضها يفقد جزءًا من تأثيره، لأن الخلفية الثقافية اليابانية تلعب دورًا هامًا في تشكيل هذه الصور.

أحد الأمثلة البارزة هو أعمال بورخيس، التي تعتمد على اللعب باللغة والطبقات المتعددة للمعاني. حين تُترجم، يواجه المترجم معضلة: هل ينقل المعنى الحرفي، أم يحاول خلق توازٍ ثقافي في اللغة الأخرى؟ في كلتا الحالتين، هناك شيء يُفقد.

هل المترجم خائنٌ للنص الأصلي؟

هناك قول شائع بالإيطالية: "Traduttore, traditore" أي "المترجم خائن"، ويعود هذا التعبير إلى الإحساس بأن الترجمة، مهما كانت دقيقة، لا تستطيع أن تكون وفية للنص الأصلي بالكامل. لكن هل هذه "الخيانة" حتمية؟ أم أن هناك استراتيجيات يمكن أن تقلل من تأثيرها؟

1. الترجمة الحرفية مقابل الترجمة الإبداعية

المترجم الذي يلتزم بالترجمة الحرفية قد يحافظ على الدقة اللغوية، لكنه يفقد روح النص. بينما المترجم الذي يأخذ حرية إبداعية قد يُنتج نصًا أكثر انسجامًا مع اللغة الجديدة، لكنه يخاطر بتغيير نبرة الكاتب الأصلي.

على سبيل المثال، بعض الترجمات العربية لأعمال دوستويفسكي تبدو أكاديمية وجامدة مقارنة بأسلوبه المتدفق العاطفي في الروسية. السبب؟ بعض المترجمين التزموا بالمعنى الحرفي، بينما فقدوا الإحساس بالروح السردية. على العكس، ترجمات صلاح فضل لبورخيس أو ترجمات رفعت عطفة لماركيز تُظهر جرأة في نقل الأسلوب، لكنها قد تحمل بصمة المترجم بوضوح.

2. أثر المترجم في العمل الأدبي

في بعض الأحيان، يكون للمترجم دور مشابه للمؤلف، حيث يعيد تشكيل النص ليكون أكثر قابلية للفهم لدى الجمهور الجديد. وهناك حالات شهيرة لمترجمين صنعوا شهرة الأعمال الأدبية أكثر من الكاتب نفسه.

على سبيل المثال، عندما ترجم إدغار آلان بو بعض أعماله إلى الفرنسية، وجد أنها أصبحت أكثر شهرة في فرنسا مما كانت عليه في أمريكا. وكذلك، أصبحت ترجمات ألفريد كنوت لمسرحيات شكسبير إلى الألمانية بمثابة أعمال أدبية قائمة بذاتها، حتى أن بعض الألمان اعتقدوا أن النصوص الأصلية أقل قوة من الترجمات!

هل الترجمة تفسد النصوص الأدبية؟ ليس دائماً!

رغم كل التحديات التي ناقشناها، لا يمكن القول إن الترجمة دائماً تفسد جمال النصوص الأدبية. هناك ترجمات تُعد أعمالاً فنية بحد ذاتها.

على سبيل المثال، ترجمة جبرا إبراهيم جبرا لروايات وليم فوكنر جعلت النص يبدو أكثر انسجامًا مع العربية، حتى أن بعض القراء وجدوا فيها بعدًا جديدًا من الجمال لم يكن موجودًا في النص الأصلي.

إضافة إلى ذلك، هناك أعمال لا يمكن أن تصل إلى جمهور واسع دون الترجمة، مثل أعمال دوستويفسكي، كافكا، أو ماركيز. صحيح أن النصوص تفقد شيئًا، لكنها تكسب جمهورًا جديدًا يعيد اكتشافها بشكل مختلف.

الخاتمة: الترجمة كإعادة خلق للنصوص

في النهاية، الترجمة ليست مجرد نقل كلمات من لغة إلى أخرى، بل هي عملية إعادة خلق للنص في بيئة ثقافية مختلفة. نعم، قد تفقد بعض النصوص جزءًا من سحرها، لكن في المقابل، قد تكتسب معاني جديدة لم تكن موجودة في الأصل.

ما يجعل الترجمة فنًا وليس مجرد عملية تقنية هو مدى قدرة المترجم على الحفاظ على الجوهر العاطفي والبلاغي للنص، وليس فقط معناه الظاهري. في بعض الحالات، قد يكون النص المترجم أكثر إبداعًا من الأصل، وفي حالات أخرى، قد يكون ظلًا باهتًا له.

إذن، هل الترجمة تفسد النصوص الأدبية؟ الجواب ليس مطلقًا، بل يعتمد على النص، المترجم، والطريقة التي يتم بها نقل العمل. ما يمكننا الجزم به هو أن الترجمة تفتح لنا أبوابًا إلى عوالم لم نكن لنراها لولاها، حتى لو لم تكن تلك العوالم بنقائها الأصلي.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال