الأدب في عصر الصورة: هل يمكن للنصوص أن تصمد أمام الشاشة؟
يوسف يعقوب
هل صار الأدب ترفًا في زمنٍ صارت فيه الصورة ملكة الحواس؟ سؤالٌ يتسلل إلى ذهنية القارئ كلما مرّ بإحصائية عن تراجع القراءة الورقية، أو حين يتأمل مشهدًا اعتياديًا لركاب الحافلة وهم يحدقون في شاشات هواتفهم، لا كتبهم. نعيش اليوم في عصر تحكمه الصورة: مرئيٌ سريع، جذّاب، ويعد بالإثارة أو المعرفة في بضع ثوانٍ. ومع انفجار المنصات الرقمية، من تيك توك إلى إنستغرام، بات النص الأدبي مهددًا، لا من الرقابة أو الإقصاء كما في عصور سابقة، بل من النسيان.
إن التحدي الذي يواجه النصوص الأدبية اليوم ليس مجرد تحدٍّ شكلي أو تقني، بل هو تحوّل في البنية الإدراكية والثقافية للإنسان المعاصر. فبينما كانت القراءة نشاطًا يتطلب العزلة والتركيز والاندماج، بات التلقي المعرفي اليوم قائمًا على التمرير السريع، والتمثّل البصري، والاستهلاك اللحظي. النص الأدبي، بمفرداته المتأنية وجمله الطويلة، يقف أمام قارئ جديد تربّى على الإيجاز والاختصار والانفعال السريع. هذا التحول لا يهدد الشكل الأدبي فحسب، بل يغيّر من طبيعة العلاقة بين الإنسان والمعنى، إذ يختزل التجربة الإنسانية من تعبير لغوي إلى صورة يمكن اختزالها بإيموجي أو مقطع ساخر
لكن لا يمكننا اختزال الواقع في ثنائية ضديّة بين الأدب والصورة. هناك محاولات لدمج الكلمة بالصورة في تجارب جديدة، كالروايات المصوّرة، والكتب التفاعلية، والمنصات التي تحوّل النصوص الأدبية إلى بودكاستات ومقاطع فيديو تمثيلية. غير أن هذه المبادرات، رغم قيمتها، تثير سؤالًا آخر: هل يتحول الأدب في هذه التجارب إلى مجرد محتوى؟ وهل يفقد بذلك قدرته على مقاومة السطحية والانخراط في الأسئلة الوجودية الكبرى التي لطالما كانت وظيفته الأساسية؟
يرى بعض النقاد أن الأدب لا يموت، بل يتكيّف. ففي كل عصر، واجه النص تهديدات متعددة: من ظهور المطبعة، إلى هيمنة الرواية على الشعر، ثم ظهور التلفاز، واليوم، الإنترنت. ومع كل تحول، تنبأ البعض بزوال الأدب، لكنه كان يعيد ابتكار نفسه، ويجد طريقه إلى القارئ من جديد. غير أن ما يميز عصر الصورة هو أنه لا ينافس الأدب في الشكل فحسب، بل يقدّم تصورًا مختلفًا للعالم: عالمٌ مرئي، متسارع، لا يحتمل العمق أو التأمل. وهذا ما يجعل التحدي الحالي أكثر جذرية
بالمقابل، يمكن القول إن النص الأدبي ما يزال يحتفظ بجاذبيته الخاصة، لا سيما لدى فئة من القرّاء الذين يبحثون في الأدب عن ملاذ ضد الضجيج، وعن طريقة لفهم الذات والعالم بعيدًا عن ثقافة الاستهلاك اللحظي. الأدب لا يمنح القارئ المتعة فقط، بل يفرض عليه تحديًا معرفيًا، ويضعه في مواجهة أسئلته الكبرى، من الحب والموت إلى الحرية والهوية. وهذه الوظيفة لا يمكن استبدالها بصورة مهما كانت معبّرة
ومن اللافت أن بعض الكتّاب المعاصرين بدأوا يعيدون التفكير في طريقة تقديم الأدب، مستفيدين من أدوات العصر دون التفريط بجوهر النص. الروائي الأمريكي مارك دانيلفسكي مثلًا كتب روايته "House of Leaves" بطريقة تجريبية تمزج بين النص والصورة والطباعة الغريبة والهوامش التفاعلية، في محاولة لجعل القراءة تجربة بصرية وحسّية. كما انتشرت مشاريع أدبية على إنستغرام وتويتر، تكتب نصوصًا قصيرة مخصصة للعرض السريع، لكنها تحافظ على لمحة شعرية أو رمزية
ومع ذلك، تبقى هذه المبادرات جزئية ولا تمثل تيارًا عامًا. فالأغلبية من مستخدمي الشبكات الاجتماعية لا يتفاعلون مع النصوص الطويلة، ولا يبدون استعدادًا للانخراط في سرديات معقدة. وهذا ما يدفعنا للقول إن الصراع بين الأدب والصورة ليس صراع أشكال فقط، بل هو صراع على نمط الوعي. الصورة تَعِدُ بالإشباع الفوري، بينما الأدب يتطلب الانتظار. الصورة تَعرِض، أما الأدب فيشرح. وبين العرض والشرح، بين الإغراء الفوري والتأمل الطويل، يكمن هذا الصراع الخفي
إضافة إلى ذلك، فإن صناعة المحتوى الحديثة جعلت من المبدع جزءًا من معادلة السوق، ولم يعد بالإمكان فصل الإبداع عن آليات الانتشار. الكتّاب اليوم يُطلب منهم أن يكونوا مرئيين: أن يروّجوا لأعمالهم، ويظهروا في لقاءات مصورة، وأن يكون لهم "حضور رقمي" على الأقل. هذا التداخل بين الكتابة كفعل داخلي، والتسويق كفعل خارجي، يغيّر طبيعة العملية الإبداعية نفسها، ويضع الأدب أمام اختبار مزدوج: أن يظل عميقًا في عصر السطحية، وجذابًا في عصر السرعة
ولعل المعضلة الأكبر تكمن في الأجيال الجديدة، التي نشأت في ظل الشاشات، ولم تختبر علاقة حميمة مع الكتاب الورقي أو النص الطويل. كيف يمكن إقناع مراهق اعتاد على تلقي المعرفة في مقاطع قصيرة، أن يقرأ رواية من 300 صفحة؟ وكيف يمكن غرس تقدير اللغة في وعي من يرى في الكتابة مجرد وسيلة للحصول على المعلومات، لا بوابة لفهم الذات والوجود؟ هذه الأسئلة تفتح الباب أمام مسؤولية تربوية وثقافية تقع على عاتق المؤسسات التعليمية والإعلامية، بل وعلى الكتّاب أنفسهم
مع ذلك، لا يمكننا تجاهل الحراك الثقافي الموازي، الذي يشهد على صمود النصوص رغم طغيان الصورة. في السنوات الأخيرة، برزت مبادرات قرائية عديدة في العالم العربي، مثل "تحدي القراءة العربي"، ونوادي الكتب على يوتيوب وإنستغرام، التي تجمع قرّاء من مختلف الدول لمناقشة الروايات والنصوص. هذه المبادرات، وإن بدت متواضعة أمام ضجيج المحتوى الترفيهي، إلا أنها تشير إلى أن الأدب لم ينته، بل ما زال يجد له أنصارًا، حتى في أكثر البيئات الرقمية زخمًا
كما أن العودة إلى النص ليست دائمًا نكوصًا للماضي، بل قد تكون شكلًا من المقاومة الثقافية. فالقارئ الذي يختار الغوص في رواية دوستويفسكي بدل تصفح فيديوهات "الترند"، لا يقوم بفعل استهلاك، بل بفعل تأمل. هذا القارئ لا يبحث عن الإمتاع السريع، بل عن مساءلة الذات. ولعل هذه هي القوة الحقيقية للنص الأدبي: أنه يخلق قارئًا مختلفًا، قارئًا لا يكتفي برؤية العالم، بل يسعى لفهمه
ومع أن السوق الأدبي يتغير، إلا أن القيمة الأدبية لا تُقاس بعدد المشاهدات، بل بقدرة النص على البقاء في الذاكرة. كم من صورة شهيرة اندثرت بعد أيام؟ وكم من نص قديم ما زال ينبض بالحياة ويُقرأ بعد قرون؟ هذه المفارقة تذكّرنا بأن الأدب، وإن بدا ضعيفًا أمام هيمنة الصورة، إلا أنه يملك سلاحًا خفيًا: القدرة على مقاومة النسيان
في النهاية، قد لا يكون السؤال "هل يصمد الأدب أمام الصورة؟" هو السؤال الأهم. بل ربما الأجدى أن نسأل: ما الذي يمكن أن يقدمه الأدب في عصر الصورة؟ كيف يعيد تشكيل نفسه، ويجد صوته وسط ضجيج الشاشات؟ فبدلًا من اجترار النوستالجيا لماضٍ كانت فيه الكتب تُقرأ على نطاق واسع، ربما علينا أن نفكر في المستقبل الذي يمكن فيه للأدب أن يكون حيًّا، لا بتكرار نفسه، بل بابتكار طرق جديدة للحضور والمعنى. وفي هذا الابتكار، تكمن فرصته الحقيقية في البقاء.