الفكرة حين تتخفى في السرد: لماذا نقرأ الرواية ونفهم الفلسفة دون أن ندري؟
حين يصير السرد مسكنًا للفكر، تتسلل المفاهيم إلى وعينا كما تتسرب الأحلام في غفلة من المنطق.
في زمنٍ تتسارع فيه الصور وتتفكك فيه المعاني، يبدو أن الرواية أصبحت أكثر من مجرد حكاية، وأقل من أطروحة فلسفية مكتملة، لكنها، في ذات الوقت، تقيم في المسافة بينهما. كأنها تُمارس تمرّدها على الفلسفة وهي تحتضنها. تُلبسها رداء الشخصيات والحوارات والمواقف، وتُخفيها خلف ما يبدو بسيطًا وساذجًا، بينما تنفذ إلى أعماق الوعي دون استئذان. نحن لا نقرأ "الطاعون" لكامو لنفهم العبث، ولا "الإخوة كارامازوف" لدوستويفسكي لنُقوّض يقيننا الأخلاقي، لكننا نخرج منهما وقد تغيّر شيءٌ ما في وعينا، كأن الفكرة ارتكبت فعلًا ما فينا دون أن تُفصح عن نفسها.
لقد فهمت الرواية جيدًا أنها لا تملك سلطة الوعظ، وأنها حين تَخطب تفقد تأثيرها. لكنّها حين تحكي، تزرع البذور. وفي هذا الفعل الحميمي، تتسلل الفكرة ــ أيًّا كانت ــ إلى القارئ، تتلبّسه، وربما تُعيد ترتيب العالم داخله. ما يحدث هنا ليس نقلًا للمعرفة، بل تواطؤًا سرديًا بين القارئ والنص؛ الفكرة ليست موضوعًا معرفيًا فقط، بل تجربة شعورية تتخلل التفاصيل. لنأخذ مثالًا: حين نقرأ "الغريب" لكامو، نحن لا نتلقّى تعريفًا للعبث، بل نعيشه من خلال ميرسو، وحياده القاسي، وانفعاله المنكسر أمام شمسٍ لا ترحم.
إن الفكرة في الرواية تشبه الظلّ الذي لا يظهر إلا حين تسطع عليه تجربة. إنها ليست نصًا مُجرّدًا، بل حياة ممسرحة. وربما هنا يكمن سرّ قوة الرواية: أنها تجعل الفكرة تُختبر، لا تُعلَن. في روايات فيرجينيا وولف، مثل "إلى الفنار"، لا نجد بيانًا نسويًا صارخًا، لكننا نغرق في وعي امرأةٍ تراقب ذاتها والعالم، وفي مراقبتها تنكشف السلطة، يُفضح الزمن، وتنهار الحدود بين الشعور والمعرفة.
السرد لا يشرح، بل يُجسّد. لا يقول: "هذا هو المعنى"، بل يجعلنا نحياه. من يقرأ "مائة عام من العزلة" لا يحتاج أن يُخبره أحد بأن التاريخ يعيد نفسه، أو أن العالم يحكمه العبث، بل يشعر بذلك من تكرار الأسماء، ومن التداخل المرعب بين الأسطورة والواقع. وكأن ماركيز لم يكن يريد تعليمنا شيئًا، بل يريدنا أن نغرق معه في لُجة العبث الكولومبي، لنُدرك بعد ذلك أن ما عشناه ليس خيالًا بقدر ما هو انعكاس لواقع لا يفهمه المنطق وحده.
الفكرة تتخفّى إذًا لا لتتهرّب، بل لتكتسب حياة. وهذا التخفي ليس ضعفًا، بل حيلة سردية ذكية. فالقارئ الذي يدخل الرواية ببراءة المتعة، يُفاجَأ في منتصف الطريق بأن شيئًا داخله قد تغيّر، أنه صار يرى العالم من زاوية مختلفة. ليس لأنه اقتنع، بل لأنه عاش. الرواية لا تفرض فكرة، بل تزرع إحساسًا، وتفتح الباب للتأويل.
ولعلّ هذا ما جعل سارتر يقول بأن "كل أدب هو أدب ملتزم"، ليس بالمعنى السياسي، بل لأن الكاتب حين يكتب، يختار أن يُشير إلى العالم بطريقة معينة. والسارد، حين يقرر كيف يحكي، يقرّر أي زاوية للمعنى يمنحها للقارئ. فالفكرة لا تظهر فقط في ما يُقال، بل في كيف يُقال. في صمت الشخصية، في التكرار، في الانقطاع، في التحوّل، هناك دومًا رسالة تتشكل دون أن تُكتَب.
وقد تكون الرواية اليوم، في عالمٍ تهيمن عليه الضوضاء والمباشَرة، هي المساحة الأخيرة التي تستطيع فيها الفكرة أن تتنفس بهدوء. أن تأخذ وقتها في التشكل، أن تتجلى في نظرة، في فقد، في ندم، لا في شعار. لم تعد الفلسفة كما كانت أيام أفلاطون وسقراط، تُلقى في الساحات، بل صارت تختبئ بين الصفحات، تهمس لا تُنظّر، تبوح لا تُلقي دروسًا.
لهذا نحب الروايات التي تجعلنا نفكر دون أن تقول لنا ذلك. التي تجرّنا إلى العمق ونحن نظن أننا نسبح على السطح. ولهذا نعود إلى دوستويفسكي، وكافكا، وميلان كونديرا، لا لأنهم يملكون "أفكارًا"، بل لأنهم جعلوا الفكر حيًّا، هشًّا، إنسانيًّا، متورطًا في الحياة، لا مفصولًا عنها.
وإن كانت الفلسفة هي بحث عن الحقيقة، فالرواية تجعلنا نعيش تلك الحقيقة في تعدّدها، في غموضها، في تناقضها. لا تقول لنا ما هو الخير، لكنها تُرينا شخصيات تتعذب بين أخلاقيتين. لا تعرّف الجمال، لكنها تضعنا في حضرة مشهد يجبرنا أن نتأمل. ليست الرواية درسًا في الفلسفة، لكنها طريق للفهم الأعمق، لأنّها تُحرّك فينا ليس فقط العقل، بل الروح، والذاكرة، والحدس.
ربما لهذا كانت بعض الروايات أصدق من كتب الفلسفة. لأنها لا تتعالى على القارئ، بل تشاركه إنسانيته. لا تفترض الحقيقة، بل تبحث معها. وفي هذا البحث، يُعاد تشكيل الفكرة ككائن حيّ، قابل للخطأ، للدهشة، للتراجع.
الفكرة حين تتخفى في السرد، لا تفقد معناها، بل تكتسب أبعادًا. تصير مرئية من زوايا مختلفة، قابلة للتأويل، ومفتوحة للقراءة المتعددة. والرواية، بهذا المعنى، ليست وسيلة لنقل فكرة، بل فضاء يولد فيه الفكر من التجربة، لا من التنظير.