حين يتخفّى الفكر في ثياب الراوي.
هل يمكن للفلسفة أن تُروى؟ كيف نحول الأفكار الكبرى إلى قصص حيّة؟ هذا المقال يأخذك في رحلة بين الفكر والسرد، حيث تتحول المفاهيم الفلسفية إلى حكايات تلامس الوعي والوجدان.
في البدء، لم تكن الفلسفة سوى دهشة. تلك الدهشة الأولى التي حملها الإنسان حين نظر إلى السماء وتساءل: من أنا؟ ولماذا؟ وما الذي يجعل الحياة تستحق أن تُروى؟ لم تكن الفلسفة يومًا مفصولة عن الحكاية، بل ربما كانت الحكاية هي اللغة الأولى للفكر، والوسيلة الأكثر فاعلية لترجمة الأسئلة الوجودية إلى نص يمكن للقارئ أن يعبر خلاله إلى عوالم التأمل.
لكن، لماذا نخشى من الفلسفة ونلوذ بالحكايات؟ ولماذا تبدو كتب الفلاسفة ثقيلة، بينما نجد أنفسنا نتورط في رواية تقودنا خلسة إلى صلب أسئلتهم الكبرى؟ هل يمكن أن تتحول الفلسفة إلى أدب؟ وهل تصلح الأفكار الكبرى لأن تُروى، لا أن تُشرح فقط؟
حين تُروى الأسئلة: ما قبل سقراط وما بعد الرواية
لعل بداية الفلسفة السردية تعود إلى أولئك الحكماء السابقين لسقراط، الذين لم يكتبوا كتبًا فلسفية بمفهومنا الحديث، بل نظموا أفكارهم في شذرات، في قصائد، أو في حكايات رمزية كما فعل هرقليطس وأفلاطون من بعده. كان أفلاطون، وهو الأب المؤسس للفكر الفلسفي الغربي، كاتبًا مسرحيًا قبل أن يصبح فيلسوفًا، وربما لهذا السبب كتب فلسفته في شكل "حوارات"، حيث الشخصيات تتجادل وتتبادل الأسئلة بدلًا من أن تُساق الحجج جافة في نصوص تفسيرية.
المدهش أن الفلسفة التي بدأت حكائية، عادت مؤخرًا إلى الحكاية، ولكن من باب الرواية الأدبية. فها هو "ميلان كونديرا"، في روايته خفة الكائن التي لا تحتمل، يحوّل سؤال نيتشه عن "العود الأبدي" إلى عقدة سردية. وها هو "سارتر"، في الغثيان، يجعل من بطل روايته رجلًا يعيش التمزق الوجودي لا على الورق الفلسفي، بل في قلب الشارع، في تفاصيل المقاهي، في لحظات الصمت والارتباك أمام الذات.
الفكرة حين تتخفى في السرد: لماذا نقرأ الرواية ونفهم الفلسفة دون أن ندري؟
الفلسفة في جوهرها دعوة للتفكير، ولكن التفكير المجرّد يصعب أن يصل إلى القلب. نحن نحتاج إلى "القصّ"، إلى التمثيل، إلى المثال الذي يُجسّد الفكرة. هنا تكمن براعة السرد في خدمة الفلسفة. حين نقرأ الغريب لألبير كامو، لا نحتاج إلى كتاب تمهيدي عن العبثية، لأننا نراها متجسدة في "ميرسو"؛ ذلك الرجل الذي لا يبكي في جنازة أمه، ولا يجد سببًا وجيهًا للقتل أو للحياة.
الرواية لا تشرح، بل تُظهر. تُعري الفكرة من تنظيرها وتمنحها جسدًا. وهكذا، تتحول "الحرية" إلى تجربة، لا إلى مفهوم. وتصبح "العدالة" مشهدًا في محكمة، لا فصلًا في كتاب أكاديمي.
الكاتب الفيلسوف، أو الفيلسوف الحكّاء؟
إن أبرز من التقط هذه العلاقة بين السرد والفكر هم أولئك الكتاب الذين جمعوا بين الحقلين. نيتشه نفسه كتب بأسلوب شعري ساخر، وكانت جملته النثرية تنتمي إلى النصوص المفتوحة أكثر من انتمائها للكتابة التحليلية. حتى كتابه الأشهر، هكذا تكلم زرادشت، ليس أكثر من ملحمة سردية ذات بنية رمزية، تكاد تشبه كتابًا مقدسًا لحكيم متجول.
جان بول سارتر، آلان باديو، هانز جورج غادامير، وغيرهم، لم يترددوا في استخدام الأدب كحقل اختبار لأفكارهم. الرواية كانت لهم مختبرًا حيًا، يتيح للفرضيات أن تتنفس بين الشخوص، أن تُختبر في الشارع لا في قاعة المحاضرة.
فلسطين كحكاية فلسفية: السرد كفعل مقاومة
في السياق العربي، تبرز فلسطين كأكثر من قضية سياسية أو تاريخية؛ إنها في جوهرها سؤال فلسفي معلّق. سؤال عن العدالة، عن الهوية، عن الوطن والذاكرة والمنفى. وهنا، تتحول الحكاية الفلسطينية إلى نص فلسفي في شكل أدبي.
غسان كنفاني، مثلاً، لم يكتب الفلسفة، لكنه قدّمها في سرد أدبي ضاجّ بالأسئلة الوجودية. في رجال في الشمس، لا نجد فقط نقدًا سياسيًا لحالة اللجوء، بل تأملاً في سؤال الخلاص، في معنى الهزيمة، في خيار الصمت أو الصراخ داخل الخزان. كذلك تفعل سحر خليفة، حين تكتب المرأة الفلسطينية لا كموضوع نسوي، بل ككائن فلسفي يتحدى النمط ويتصارع مع البنية الذكورية للمجتمع والمحتل معًا.
من الفكرة إلى التجربة: لماذا نحتاج إلى الفلسفة الأدبية اليوم؟
نحن نعيش في زمن أصبحت فيه الفكرة سلعة، تُقتطف من تغريدة أو فيديو سريع. لكن هذا التسطيح للفكر لا يعني أن الحاجة إليه تراجعت، بل بالعكس، نحن اليوم في حاجة ماسة لفكر يعيد ترتيب فوضانا، لكنه فكر لا يعظ، بل يروي. فكر لا يُلزمنا بمحاضرة، بل يُغرينا بحكاية.
الفلسفة الأدبية، أو السرد الفلسفي، هو الجسر الذي يمكن أن ينقذنا من السطح. حين نقرأ دوستويفسكي، لا نقرأ فقط رواية بوليسية، بل نغوص في أخلاقيات الجريمة، في أسئلة الخير والشر، في معنى التوبة. الرواية تصبح هنا شكلاً من أشكال "الاعتراف الفلسفي"، مساحة تُفكك فيها النفس البشرية أمام القارئ، لا الطبيب أو الفيلسوف.
الحكاية كقدر للفكر
الفلسفة التي لا تُقرأ تُنسى. والأفكار التي لا تجد من يرويها تموت في بطون الكتب. لهذا، ربما تكون الحكاية هي "القدر" الطبيعي للفكر. فنحن لا نحيا بالأفكار فقط، بل بالقصص التي تمنحها حياة. ومن يدرك هذا، لا يعود يخشى الفلسفة، بل يشتاق لسماعها حين تتجسد في بطل روائي، في يوميات لا مبالٍ، في رسالة غرامية تهتز تحت وطأة المعنى.
هكذا، تصبح الفلسفة ليست ما يُقال في قاعات الدرس، بل ما يُروى في زوايا المقاهي، وما يُسرُّ به غرباء في الحافلات، وما ينكسر في وجوه الحزانى الذين لا يعرفون أنهم يفكرون في "الوجود" حين يحدّقون طويلاً في المدى.