اللغة كمنفى: هل خانتنا المفردات؟
هل سبق لك أن شعرت بأن ما تقوله لا يشبه ما تقصده؟ أن هناك فجوة واسعة تفصل بين ما يعتمل داخلك وبين ما تسمح لك اللغة بقوله؟ أن الكلمات، رغم وفرتها، تضيق بك كما يضيق الحذاء على قدم طفلٍ ينمو أسرع من مقاسه؟ في لحظات الصدق القصوى، حين تفيض المشاعر أو تتكسّر، حين تقترب من حدود اليأس أو الحب أو الفقد، تكتشف هشاشة اللغة. الكلمات تهرب، أو تقف على أعتابك كغرباء لا يجيدون التعاطف، وربما تنقلب عليك، فتبدو كما لو أنها تخونك في لحظةٍ كان عليك أن تعتمد عليها أكثر من أي وقت. هنا لا تعود اللغة وطنًا، بل تتحول إلى منفى، إلى مساحة نعيش فيها غرباء عن أنفسنا، لأن المفردات لا تقدر أن تكون جسرًا بين الداخل والخارج.
ليس الأمر مجازًا شعريًا أو مبالغة بلاغية، بل تجربة إنسانية تكاد تكون يومية. نحن نظن أننا نتكلم لنفهم، لنُعبّر، لنُقنع أو نُحب، لكننا غالبًا ما نفشل، لأننا ننسى أن الكلمات لا تولد محايدة، وأنها تحمل تاريخًا من المعاني، من الاستخدامات، من السياقات التي قد تفسدها أو تشوهها. تقول "أحبك" لكنك لا تعني بها ما تعنيه الأغنية أو الرواية أو ذلك الموقف المتكرر في الدراما، بل شيئًا خاصًا بك، شيئًا لا تملك له اسمًا. تقول "فقدتُ أبي"، لكن المفردة لا تستطيع أن تحوي ذلك الغياب الثقيل، ولا يمكنها أن تنقل خرائب القلب التي لم يُعدّ لها معجم. وهكذا، تتراكم الفجوات بين التجربة واللغة، بين ما نعيشه وما نقوله، وتتحول المفردات من وسيلة تواصل إلى سجنٍ صغير، تضعك خلف قضبانه كلما حاولت أن تشرح لنفسك أو لغيرك ما تشعر به.
هايدغر قال إن "اللغة هي بيت الكينونة"، لكنه لم يقل إن هذا البيت قد ينهار، أو يُحتل، أو يُغلق في وجهك. اللغة ليست دائمًا مأوى. في عالمنا العربي، خصوصًا، نعيش انقسامًا لغويًا يجعل من هذا "البيت" مكانًا مهجورًا. نكتب بالعربية الفصحى، نتكلم بالعامية، نُفكر بمزيجٍ من لغات وصور وأمثال. المفردة لا تحمل ثقل الحياة كما كنا نعتقد، بل تبدو أحيانًا مثل قناعٍ مفرغ من الملامح. يكتب الشاعر نصًا حارقًا، لكن القارئ لا يبكي؛ يصرخ الكاتب بالحبر، لكن القارئ لا يسمع؛ نقول "وطن"، لكنّ الكلمة تُستهلك في الشعارات حتى تفقد معناها وتصبح مثل طابع بريدٍ عتيق لا يُرسل رسالة ولا يُذكّر بشيء.
ثم إننا نعيش زمنًا أفرغ الكلمات من معناها. لم تعد اللغة مرآةً للنفس أو وصفًا للواقع، بل أداة للمراوغة، للتضليل، للتجميل. الإعلام يمارس جريمة قتل للمعنى حين يستخدم مفردات مخففة لواقع مفجع. يقولون "توفي طفلٌ في القصف" بدلًا من "قُتل"، و"عملية عسكرية محدودة" بدلًا من "اجتياح"، و"خسائر بشرية" بدلًا من "مجزرة". هكذا تتحول اللغة إلى منفى حقيقي، ليس فقط عن الذات، بل عن الحقيقة. والمفارقة أن الكلمات التي خُلقت لتضيء، أصبحت تُستخدم لتعمية الواقع، لتزييف الألم، لتجميل البشاعة.
والكاتب، حين يُمسك القلم، لا يحتمي فقط باللغة، بل يواجهها. يحاول أن يكتب رغم معرفته بأن المفردات قاصرة، بأن الجملة لن تُنصف الشعور، بأن العبارة مهما بدت دقيقة، لن تُقارب ما يحترق في الداخل. الكتابة ليست استعراضًا لغويًا، بل شجارٌ مع اللغة ذاتها، تمرينٌ دائم على مقاومة الخرس، محاولةٌ مستمرة لتسمية ما لا يُسمى. لكن حتى هذه المحاولة تتطلب شجاعة كبيرة، لأن اللغة تكشف، ومن يكتب يعرّي نفسه، يضع ألمه على الطاولة، يسمي أحلامه، وانكساراته، وأوهامه، ويمنحها للغرباء ليقرؤوها، وربما لا يفهموها.
من هنا كان الأدب شكلًا من أشكال المقاومة، ليس فقط ضد الاستعمار أو الظلم، بل ضد صمت اللغة، ضد فقر المفردات، ضد القوالب الجاهزة التي تحوّل الإنسان إلى آلة تكرر ما قيل، لا ما ينبغي أن يُقال. والرواية الجيدة، ليست فقط قصة ممتعة، بل حرب خفية ضد التبسيط، تمرّد على الجمل المعلبة، احتفاء بالمجاز، وولادةٌ مستمرة للمعنى من بين الركام.
لكن هل حقًا خانتنا المفردات؟ أم أننا لم نحسن استخدامها؟ ألسنا نحن من شوه الكلمات بتكرارها، من قتل المعاني بالاستهلاك اليومي، من جعل كل شيء "عظيمًا" حتى لم يعد هناك ما هو عظيم؟ ألسنا نحن من فرّط في اللغة، من فصلها عن الجسد، عن التجربة، عن الدم الحي الذي يجعل المفردة نابضة لا ميتة؟ الحقيقة أن المفردات لا تخوننا بقدر ما نخذلها. نحن الذين نرتاح للصيغ الجاهزة، الذين ننسخ التعابير دون أن نشعر بثقلها، الذين نستهلك اللغة كما نستهلك كل شيء في هذا العالم: بسرعة، بسطحية، بلا اهتمام.
لكن اللغة ليست ميتة. لا تزال هناك جُمل تُبكينا حين نقرأها، كلماتٌ تُعيدنا إلى طفولتنا، قصائدٌ تنبت في الذاكرة كأنها تُقال لأول مرة. لا تزال هناك تجارب تكتب من حافة الهاوية، ومفردات تُكتشف وكأنها معادن نادرة في مناجم الحياة. وهذا يعني أن اللغة، رغم كل شيء، لا تزال تسكننا، ولا تزال ممكنة. وأن المنفى ليس قدرًا، بل ظرفٌ قابل للتغيير، شرطه أن نكون صادقين مع أنفسنا، أن نعيد التفكير بما نقول، أن نمنح الكلمات وقتًا لكي تُنضج معناها.
في النهاية، لا يمكننا أن نعيش خارج اللغة. نحن نسكنها، ونسقط فيها، وننهض بها، ونتقاطع معها كما نتقاطع مع المدن والذكريات. وحين نخون اللغة، نخون أنفسنا. لكن حين نُعيد إليها مكانتها، حين نحترم مفردة مثل "أم"، "حبيب"، "منفى"، "حرية"، حين لا نقولها إلا إذا عنيناها، حين نُعيد للكلمة وزنها، فإننا نصنع من اللغة وطنًا جديدًا، أكثر رحابة من كل الجغرافيا.
ربما لم تخننا المفردات... ربما نحن من تخلينا عنها، وتركناها تتآكل في زوايا الكلام الرخيص. لكن الفرصة لا تزال قائمة. اللغة ليست فقط وسيلة، بل حياة أخرى يمكن أن نحياها إن أحسنّا الإصغاء... والكتابة.