حين يتخفّى الفكر في ثياب الراوي.
في هذا المقال نتتبع كيف تتخفى الأفكار الفلسفية داخل السرد الأدبي، وكيف يتحول الراوي إلى فيلسوف دون أن يرتدي عباءته الصريحة. من سقراط إلى دوستويفسكي، رحلة عبر النصوص التي تروّض المفاهيم وتحولها إلى حكايات.
في زمنٍ تتكاثر فيه الأجوبة وتبهت فيه الأسئلة، تصبح الحكاية آخر معاقل الفكر. لم تعد الفلسفة حكرًا على القاعات الجامعية، ولا حصرًا على النصوص الموصدة بين دفتي التنظير. لقد خرجت، بتؤدة وتمويه، إلى شوارع السرد، ولبست ثياب الراوي، متخفية في تفاصيل الحكايات، منثورة بين الحوار والوصف، حيث لا تتكلم بصيغة "ينبغي أن" بل بصيغة "حدثَ أن…".
قد يبدو الأمر عابرًا، مجرّد تحوّل شكلي: أن تُكتب الفكرة لا في صيغة أطروحة، بل ضمن جملة روائية أو مشهد درامي. لكن الحقيقة أعمق من ذلك بكثير. إنها ليست مجرد نقلٍ من جنسٍ أدبي إلى آخر، بل هو عبور للفلسفة من وضعها العلني المكشوف إلى حالة التخفّي، حيث تصير الفكرة أكثر تأثيرًا لأنها تُقنع دون أن تفرض، تُحرّك دون أن تصدم، وتزرع الشك دون أن تُعلن الحرب على اليقين.
كل سرد هو شكل من أشكال التفكير. لكن ليس كل تفكير هو سرد. الراوي الجيد ليس من يعرف الحكاية، بل من يعرف كيف يُخفي الأسئلة داخلها دون أن يفقد خيط التسلية. الحكاية التي لا تُمطر أسئلة ليست حكاية، بل خبر. والخبر يموت فور ولادته، أما الحكاية فتظل حية لأنها لا تقول الحقيقة، بل تسائلها.
وهنا يكمن جوهر الفلسفة السردية: أن تُكتب الأفكار بطريقة تجعلها قابلة للعيش، لا للحفظ. حين يروي دوستويفسكي صراع راسكولنيكوف مع الضمير، هو لا يقدّم نظرية في الأخلاق، بل يُجسّد مأزقًا وجوديًا تتناسل منه الأسئلة: هل يُبرر الفقر الجريمة؟ هل يوجد شر نافع؟ هل يمكن للضمير أن يتعافى بعد أن يلوثه الدم؟
لماذا نقرأ الرواية ونفهم الفلسفة دون أن ندري؟
لأن الإنسان مخلوق حكائي. يتذكر العالم على هيئة مشاهد، يتأمل ذاته عبر قصص، ويفهم الآخرين من خلال السرد. الفكرة الصريحة تُربكنا، تُشعرنا بالاختبار. أما حين تأتي متخفية داخل قصة، فإنها تعبر إلينا بلطف، وتستقر في أعماق وعينا كما يستقر اللحن الجميل دون أن ننتبه إلى قواعد النوتة.
ربما لهذا السبب، صار سقراط نفسه شخصية حوارية في نصوص أفلاطون. لم يكتب أفلاطون الفكرة كما هي، بل جعلها تمشي على قدمي سقراط، تجادل، تتساءل، وتدعو السامع لأن يشارك، لا أن يحفظ. منذ ذلك الزمن، تولد الحكاية من رحم الفلسفة، وتولد الفلسفة من رحم الحكاية.
هناك كُتاب يختارون السرد ليُخفي الفكرة، وهناك آخرون يكتبون الفكرة ثم يكسونها بالسرد. في الحالتين، نحن أمام أدب لا يقتصر على التسلية، بل يتورّط في التفكير. ألبير كامو، مثلًا، لا يعرض عبثية الوجود كأطروحة، بل يجعلنا نعيشها عبر شخصية ميرسو في "الغريب". لا يقول: "العالم بلا معنى"، بل يجعلنا نحس بذلك حين نرى بطله يواجه الموت بلامبالاة صارخة، كأن الحياة لم تَعُد أكثر من سلسلة طقوس جوفاء.
الفلسفة لا تكتب الحياة، بل تسائلها. والحكاية لا تشرح العالم، بل تجعله يُروى. حين يجتمع الاثنان، يصبح النص أداة كشف لا وعظ. في قصة قصيرة أو فصل من رواية، يمكن للكاتب أن يُقوّض مفهومًا استمر قرونًا. يمكنه أن يزعزع مركزية العقل، أو يُشكّك في قدرة اللغة، أو يُعيد تعريف الخير والشر. لا شيء يُحرّض على الشك أكثر من شخصية متقنة، تعيش التناقض كما يعيشه القارئ.
حين نتأمل شخصيات مثل "إيفان كارامازوف" أو "زوسيمو" أو "الأخ الأكبر" في روايات دوستويفسكي، نحن لا نقرأ فقط سردًا. نحن نُجبر على إعادة التفكير في كل ما تعلّمناه عن الإيمان والعدالة والحرية. كل شخصية تقف كأنها أطروحة، لكنها لا تُلقِي خطابًا. بل تتحدث، تتصرف، تخطئ، وتُربكنا.
إنه الفارق بين أن تقرأ كتابًا في الأخلاق، وأن تُعايش مأزقًا أخلاقيًا في مشهد روائي. الفكرة تظل حبيسة العقل إن لم تمر بتجربة. ولهذا لا تُغيّر الفلسفة وحدها العالم. وإنما تغيّره حين تُجسَّد، حين تتحوّل إلى تجربة سردية تعيد ترتيب العالم في وعي القارئ.
كل كاتب حكّاء هو، في العمق، فيلسوف يتخفّى. ليس بالضرورة أن يكون دارسًا للفلسفة، ولا أن يُكثر من الاستشهادات. يكفي أن يكتب من منطلق الشك، من هاجس السؤال، من رغبة في الحفر تحت سطح المألوف. تلك هي الفلسفة: رغبة في الفهم، وإصرار على أن لا شيء نهائي.
حتى القصص الشعبية، في جوهرها، تحوي أسئلة كبرى: ما العدالة؟ ما المصير؟ ما الخير؟ الحكاية التي تروى على لسان الجدة ليست بريئة. إنها فلسفة محكية بلغة العاطفة، لا العقل. الراوي الشعبي هو فيلسوف لا يعلن عن نفسه، لكنه يُعيد تشكيل تصوراتنا عن العالم بهدوء.
تتقاطع الفلسفة والسرد في نقطة أساسية: أن كلتاهما تسعيان إلى تفكيك الواقع. الفلسفة تُفكك الواقع عبر السؤال، والسرد يُفككه عبر التخيل. لكن الأثر واحد: زعزعة اليقين، وفتح الباب أمام احتمالات متعددة للفهم.
ولعلّ ذلك ما يُفسر لماذا نلجأ إلى الرواية حين نُرهَق من الواقع، ولماذا نلجأ إلى الفلسفة حين نشعر أن الواقع لا يكفي. الاثنتان، بطريقتهما، تمنحاننا قدرة على رؤية الأشياء من زاوية جديدة.
إننا بحاجة إلى هذا النوع من الأدب اليوم، أكثر من أي وقت مضى. أدب يُفكّر دون أن يعظ، ويُفكك دون أن يدمر. أدب يُعيد إلينا شغف السؤال، ويمنحنا الأدوات لنفهم العالم لا لنهرب منه.
حين يتخفّى الفكر في ثياب الراوي، يصبح العالم أكثر قابلية للقراءة. ويصير القارئ شريكًا في الفلسفة، لا متلقيًا لها. وهذا وحده كافٍ لأن نعيد التفكير في ما تعنيه الرواية، وما تعنيه الفلسفة، وما يعنيه أن نعيش بين الاثنين.