عن الحنين الذي لا يسعفه المكان.

 

عن الحنين الذي لا يسعفه المكان.

يوسف يعقوب


في إحدى الليالي الهادئة، بينما كنت أمشي وحدي في المدينة التي أعيش فيها منذ أعوام، باغتني شعور مألوف، لكنّه لا يزورني كثيرًا. لم يكن حزنًا ولا فرحًا ولا حتى ندمًا. كان شيئًا أشبه بالحنين، ولكنّه حنين لا يطلب العودة، ولا ينتظر اللقاء. حنينٌ لا يسعفه المكان، ولا تهدّئه الطرقات التي أعرفها جيدًا، ولا تصالحه رائحة البيوت القريبة أو أصوات العابرين. شعرت للحظة وكأنّ الزمن نفسه أصبح غريبًا، وأنّ المكان الذي أعيش فيه لم يعد كافيًا لاحتواء هذا الشعور، كما لو أن الحنين صار أكبر من الجغرافيا وأعمق من الذاكرة.

الحنين: أكثر من شعور، أقل من وطن

في الذاكرة العربية، غالبًا ما ارتبط الحنين بالعودة. عودة الغائب، رجوع المسافر، التطلع إلى الماضي. لكنه، في جوهره الأعمق، لا يتعلّق بمكان بقدر ما يتعلّق بإحساسٍ فقدنا القدرة على استعادته. الحنين، في صورته هذه، لا يبحث عن بيت ولا عن طريق، بل عن لحظة. لحظة انكسر فيها الزمن، وتشوّه فيها المكان، وخرجنا منها بأرواحٍ غير مكتملة.

في الأدب، كتب محمود درويش: "الحنين هو أن تسكنك الأشياء التي لا تسكنها." وهذا التوصيف ليس فقط شعرًا بل فلسفة كاملة. إذ يمكن للمرء أن يعود إلى بلد الطفولة، إلى البيت الأول، إلى الزقاق القديم، ومع ذلك لا يجد الحنين. لأن الحنين لم يكن هناك فقط. بل في الذات التي كانت، في الطريقة التي كنا نرى بها العالم، في الأب الذي كان حيًا، في الأم التي كانت تُعدّ الفطور بصمت، في صديقٍ افترقنا عنه دون وداع. تلك التفاصيل التي نختزنها لا تعيش في المكان، بل فينا، ولا تنكشف حين نعود، بل حين نفتقد.

حين يصبح المكان قفصًا لذاكرة طليقة

المفارقة المؤلمة في الحنين أنه لا يُروى بالوصول. ربما لهذا السبب يبقى الكثيرون على مسافة من أماكنهم الأولى. لا يعودون، أو يعودون على استحياء، كي لا يُصدموا بحقيقة أن ما يفتقدونه لم يعد هناك. لقد تغيّر كل شيء. ليس فقط الناس والطرقات والواجهات، بل حتى رائحة الهواء.

المكان، كما يقول غاستون باشلار، ليس مجرد هندسة، بل شعر. هو ما نصنعه بخيالنا، لا بما تبنيه الجغرافيا. ولذلك حين نعود، نحمل تصوراتنا، نبحث عن مكانٍ ليس موجودًا إلا في داخلنا، فنصطدم بالواقع، ونشعر أن الحنين لم يكن للمكان ذاته، بل لما كان يمثله.

هناك من يعيشون حياتهم في مدنٍ لم يعرفوها من قبل، ويتعلّقون بها تعلق الغريب الذي لا يطالب بحقه، ولا يسعى للانتماء الكامل. يعيشون على الهامش، لا لأنهم لا يحبون، بل لأنهم لا يجدون أنفسهم في أي مكان. يتنقلون بين البيوت والمقاهي والشوارع، وكلها تبدو متشابهة. الوجوه تتكرر، واللهجات تتداخل، لكنّ شيئًا واحدًا لا يتغيّر: ذلك الشعور بأننا لا ننتمي تمامًا.

الحنين كجغرافيا داخلية

حين لا يسعف المكان الحنين، يصبح الحنين وطنًا قائمًا بذاته. وطنًا لا تُرسم حدوده على الخرائط، ولا تُحكمه دولة. وطنًا من ذاكرة وموسيقى ورائحة قهوة، من أصوات انقرضت، وصورٍ لا نملك منها إلا خيوطًا من حلم. نلجأ إليه لا لنعود، بل لنحيا داخله حين لا يتيح العالم لنا ما نحتاج.

المثير أن هذا الحنين لا يقتصر على من فقد بيته أو غادر وطنه. إنه يزور الجميع، حتى أولئك الذين لم يرحلوا أبدًا. لأن الرحيل الحقيقي لا يكون بالجسد فقط، بل بالزمن. والطفولة، كما المراهقة، كما كل مرحلة عشناها ثم ودعناها، تترك وراءها حنينًا لا يعالجه المكان. لأن ما نفقده لا يُستعاد بالعودة، بل بالتذكر.

ربما لذلك نلجأ إلى الصور القديمة، وإلى الأغاني التي كنا نسمعها، وإلى إعادة قراءة الكتب التي أثّرت فينا. لا لأننا نريد فقط أن نرجع، بل لأننا نحاول أن نلمس طرفًا منّا فُقد ذات زمن. نحاول أن نصدق أننا كنا هناك فعلًا، وأن ذلك الشخص الذي كنّاه ما زال حيًا في مكانٍ ما.

فلسطين: الحنين الذي تجاوز الحدود

لا يمكن أن نتحدث عن الحنين دون أن نضع فلسطين في القلب من هذا الحديث. فالفلسطيني، بحكم التهجير والشتات، يعيش حنينًا لا يسعفه المكان من الأساس. إذ لا مكان يعود إليه ليشفى. حتى المكان ذاته لم يعد هو. القرى تهدمت، البيوت اختفت، الحقول تغيّرت. ليس هناك عودة كاملة، وليس هناك زمن يمكن استعادته. الحنين الفلسطيني ليس فقط للمكان بل لحقه فيه، لعدالته، لتاريخه، لوجوده الطبيعي فيه.

في هذه الحالة، يصبح الحنين فعل مقاومة. مقاومة للمحو، للنسيان، للاندماج القسري. ولذلك يُحافظ الفلسطيني على تفاصيل دقيقة: مفتاح البيت، صورة الجدّة، اسم الشارع، رائحة التراب. ليست هذه نوستالجيا عابرة، بل وسائل بقاء. الحنين هنا لا يتغذى على الضعف بل على التمسّك. على الإيمان بأن ما لا يُستعاد، لا يجب أن يُنسى.

أين يسكن الحنين؟

قد نسأل بعد كل هذا: إن لم يكن المكان هو ما يروينا من الحنين، فأين يسكن الحنين إذن؟

يسكن فينا، في لحظات الصمت الطويل، في دمعة مفاجئة على صوت في الراديو، في نوبة بكاء لا تفسير لها، في وجوه عابرة تشبه مَن كانوا في حياتنا ثم غابوا. يسكن في القصص التي نعيد سردها أكثر من مرة، وكأنّنا نحاول إقناع أنفسنا بأنّها حقيقية، بأنّها حدثت فعلًا.

الحنين يسكن في التفاصيل الصغيرة: في طبقٍ نأكله بعد غياب، في كتابٍ نعيد قراءته لنستعيد إحساسنا الأول، في مشهدٍ سينمائي نعرفه عن ظهر قلب لكنه يفاجئنا كل مرة.

وفي بعض الأحيان، يسكن الحنين في الكتابة نفسها. حين نكتب لنُرمّم أنفسنا، لنمنح لذاكرتنا مكانًا، لنقول للعالم إننا عشنا، وإنّ هناك ما نفتقده. الكتابة لا تُشفي، لكنها تفتح نافذة صغيرة للهواء. ولهذا نكتب عن الحنين، لا لنشفى منه، بل لنتعايش معه.

ربما لا نحتاج أن نُشخّص الحنين، ولا أن نُعالج منه. ربما يكفينا أن نعترف بوجوده، أن نمنحه مكانًا في حياتنا، دون أن نسمح له بأن يسرق الحاضر. فالحنين، إن لم يكن دافعًا للحب والإبداع، صار عبئًا يعطّل المضي قدمًا.

دعونا لا نبحث عن الأماكن التي كنا نظن أننا سنعود إليها. دعونا نبحث عن لحظات الحنين ذاتها، نحفظها كأغانٍ سرّية، نستحضرها حين يضيق بنا العالم. لأن الحنين، حين لا يسعفه المكان، يصبح طقسًا داخليًا، مناجاة نهمس بها لأنفسنا، طريقًا غير مرئي نعود عبره إلى ذواتنا القديمة. ولا بأس في ذلك.

فالحنين، في النهاية، ليس ضعفًا ولا هروبًا، بل اعتراف عاطفي بأننا كنا هناك، وبأنّ هناك جزءًا منّا ما يزال يرفض الرحيل.


إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال