نيتشه وهايدغر في سياق الأخلاق.
يوسف يعقوب
يبدو أن الحديث عن الأخلاق عند نيتشه وهايدغر لا يُمكن أن يُفصل عن قلق الإنسان المعاصر إزاء الحقيقة، والذات، والحرية، بل ربما يُمكن اعتبار هذا الحديث محاولة مستمرة لفهم سؤال الإنسان نفسه، في ظل انزياح الأخلاق من موقعها التقليدي في الدين والمجتمع إلى فسحةٍ أكثر تعقيدًا وتفككًا، حيث تُستدعى الفلسفة لتقول كلمتها في ما لا يمكن السكوت عنه. ونيتشه، الذي اشتهر بجملة "موت الإله"، لم يكن مجرّد متمرّد على التقاليد الأخلاقية فحسب، بل كان يسعى إلى هدم البنية التحتية التي قامت عليها تلك التقاليد منذ أفلاطون وحتى المسيحية، ليعيد بناء الإنسان من جديد، عبر مفهوم "إرادة القوة" و"الإنسان الأعلى". أخلاق نيتشه إذًا ليست برنامجًا أخلاقيًا بالمعنى المعتاد، بل هي تمرّدٌ على مفهوم الأخلاق ذاتها، أو لنقل: إعادة خلق للأخلاق من نقطة الصفر، من الغريزة، من الجسد، من الأعماق التي تم قمعها باسم "الخير"، و"الفضيلة"، و"الضمير". أما هايدغر، الذي تأثر بنيتشه تأثرًا واضحًا لكنه لم ينخرط في تمرّده ذاته، فقد خاض معركة مغايرة: معركة ضد نسيان الكينونة، وضد نسيان الإنسان لسؤاله الأساسي عن الوجود. وإذا كانت الأخلاق عند نيتشه مرتبطة بتفكيك القيم، فإنها عند هايدغر مسألة مسكوت عنها، لكنها تتسلل عبر كل عبارة يقولها عن "الهمّ"، و"الانفتاح"، و"النية الأصيلة"، و"الوجود من أجل الموت". وبهذا المعنى، فإن لقاء نيتشه وهايدغر في سياق "الأخلاق" ليس مجرد مقارنة بين فيلسوفين، بل هو تقاطع بين طريقين: طريق يهاجم الأخلاق من باب القوة، وطريق يتجاهل الأخلاق من باب الانشغال بالسؤال الأنطولوجي، لكن كلا الطريقين يفضيان إلى مفترق حاسم، يعيد فيهما الإنسان النظر في موقعه من العالم، ومن الآخر، ومن نفسه.
حين وصف نيتشه الأخلاق السائدة بأنها "أخلاق العبيد"، لم يكن يطلق إهانة لغوية، بل كان يعاين تحولًا تاريخيًا وفلسفيًا عميقًا، رأى فيه أن الأخلاق التي تمجد التواضع، والخنوع، والرحمة، ليست إلا تعبيرًا عن ضعف إرادة الحياة، وعن حقد دفين في النفوس التي لم تستطع أن تعيش بعفوية جسدها، ولا بغريزتها الطبيعية. وقد اعتبر أن الأخلاق الأرستقراطية، التي تُمجّد القوة، والعظمة، والشجاعة، هي التعبير الأصيل عن الحياة، قبل أن تُدجّنها العقائد والأنظمة والمؤسسات. وهكذا، فإن نيتشه، بدلًا من أن يتحدث عن الخير والشر كما يفعل الفلاسفة، انشغل بالبحث في أصل هذه المفاهيم: من أين جاءت؟ من أي نفس؟ أي طبقة اجتماعية؟ أي صراع خفي؟ لقد تفلسف نيتشه بالمطرقة، لا ليكسر التماثيل فقط، بل ليوقظ اللغة من سباتها، ويعيد للكلمات حيويتها المفقودة. وفي هذا الإطار، فإن نيتشه لا ينكر الأخلاق بقدر ما يفضحها، يفتح جرحها القديم، ويتأمل كيف تحولت من طاقة حية إلى قيدٍ على الحياة، من شجاعة داخلية إلى قيدٍ اجتماعي، من حكمة إلى قناع، من قوة إلى خوف.
أما هايدغر، فمشكلته لم تكن في الأخلاق بمعناها الأخلاقي، بل في التفكير الغربي ذاته، الذي نسي الكينونة وانشغل بالكائنات، الذي اختزل الإنسان إلى آلة عاقلة، أو إلى موضوع في منظومة معرفية. ولهذا، حين يكتب هايدغر عن "الوجود" و"الزمن"، لا نجد كثيرًا من الحديث المباشر عن الأخلاق، لكننا نشعر أن كل تأملاته تشير ضمنًا إلى سؤالها: كيف يمكن للإنسان أن يكون "أصيلًا" في وجوده؟ كيف يعيش الحياة لا كمهمة أو مشروع، بل كـ"انفتاح على الكينونة"؟ كيف يواجه الموت لا كحدث مستقبلي، بل كحقيقة تحضر في كل لحظة؟ هذه الأسئلة، وإن لم تصاغ بلغة الأخلاق، إلا أنها تؤسس لأخلاقية من نوع جديد، لا تعتمد على القواعد، ولا على المعايير الخارجية، بل على صدق العلاقة مع الذات، مع الزمن، مع الوجود ككل. إن هايدغر لا يقدم أخلاقًا جاهزة، لكنه يطالبنا بأن نوجد بطريقة أصيلة، وكأن الوجود بذاته فعل أخلاقي، أو أن الأخلاق لا تبدأ من القواعد، بل من الطريقة التي نوجد بها، من كيفية إنصاتنا للكينونة، من قدرتنا على الانفتاح على الصمت، على الشعر، على المجهول.
وهنا، يبدو التوتر واضحًا بين نيتشه وهايدغر، لكن أيضًا يبدو التقاطع مثيرًا. فنيتشه يرى في الأخلاق السائدة خيانة للحياة، بينما هايدغر يرى في السطح الأخلاقي مجرد تشويش على سؤال الوجود. نيتشه يريد أن يقلب الطاولة، أن يعيد بناء القيم، أن يستفز، أن يُفجر، بينما هايدغر يريد أن يصمت، أن يتأمل، أن يحفر في المعنى. ومع ذلك، فإن كلاهما يلتقي في أمر حاسم: لا يمكن الاستمرار في فهم الأخلاق بالطريقة التي فُهمت بها سابقًا، لا يمكن أن نواصل ترديد مفردات "الخير" و"الشر" دون أن نتساءل: من أين جاءت؟ من يخدمها؟ ضد من تُوجّه؟ لأي زمن تنتمي؟ هذا السؤال المشترك يجعل من نيتشه وهايدغر ليسا فلاسفة "ضد" الأخلاق، بل فلاسفة الأخلاق التي لم تُولد بعد، الأخلاق التي لا تُختزل في وصايا، ولا تُلخص في لائحة، بل تُمارَس في الحياة، في الحضور، في كيفية السير، والتفكير، والكلام، والموت.
ومع مرور القرن العشرين، بدا أثر نيتشه وهايدغر واضحًا على تيارات فكرية عدة، من الوجودية إلى ما بعد الحداثة، من فوكو إلى سارتر، من دريدا إلى ليفيناس، حيث لم يعد بالإمكان الحديث عن الأخلاق كحقيقة مفروضة، بل كشبكة من القوى، والخطابات، والتأويلات. وها هنا، يظهر نيتشه بوصفه منبهًا أوليًا: أي أخلاق نتحدث عنها؟ أخلاق من؟ ضد من؟ ولماذا؟ أما هايدغر، فيعود صوته لينبّهنا: إن لم يكن الإنسان صادقًا في وجوده، فلن يكون صادقًا في أخلاقه. وإن لم يفهم الكينونة، فلن يدرك حتى معنى الخير. في هذا السياق، يمكن اعتبار نيتشه وهايدغر لا كفلاسفة منفصلين عن حياتنا اليومية، بل كصوتين يلاحقاننا في كل قرار، في كل موقف، في كل محاولة للتمييز بين ما يجب وما لا يجب. صوت نيتشه يذكّرنا: لا تخن الحياة باسم الأخلاق. وصوت هايدغر يهمس: لا تنس الوجود وأنت تلهث خلف القواعد.
وقد يكون من المجدي أن نعيد التفكير اليوم، في ظل هذا التشظي الأخلاقي العالمي، بصوت نيتشه حين يسأل: من يمنح المعنى؟ من يخلق القيمة؟ هل ننتظر أن تهبط علينا من سلطة خارجية، أم أن علينا أن نخلقها، أن نحمل مسؤوليتها؟ وفي المقابل، لا يقل أهمية صوت هايدغر حين يقول: لا تركض خلف المعاني السريعة، بل عُد إلى الكينونة، إلى المكان الذي تُولد فيه الأسئلة. وبين هذين الصوتين، تتشكل فسحة جديدة للتفكير، لا تُقدّس الأخلاق التقليدية، ولا تهدمها كليًا، بل تفتح سؤال الأخلاق على اتساعه، كمعضلة وجودية، كقلق أنطولوجي، كتجربة معيشة لا يمكن تلخيصها في سطر ولا حتى في كتاب.
وربما، في نهاية هذا المسار الطويل، لا نصل إلى تعريف نهائي للأخلاق عند نيتشه أو هايدغر، بل نصل إلى ما هو أعمق: فهمٌ أن الأخلاق ليست ما يُقال، بل ما يُعاش، ليست ما نُعلّمه، بل ما نُجسده، ليست ما نُلزم به الآخرين، بل ما نتحمّله نحن حين نختار أن نكون. وإن كانت الأخلاق عند نيتشه هي شجاعة الخروج على القطيع، فإنها عند هايدغر هي شجاعة الدخول في الذات. وفي الحالتين، نحن أمام نداء فلسفي لا يدعونا لأن نكون "أخلاقيين"، بل لأن نكون "صادقين" مع أنفسنا، مع وجودنا، مع حريتنا، مع موتنا الذي يقترب.
وهكذا، يبقى سؤال الأخلاق عند نيتشه وهايدغر سؤالًا مفتوحًا، لا يُجاب عليه بجملة قاطعة، بل يُجاب عليه بسيرة حياة. بالسير في الدروب التي فتحتها أفكارهما، لا للاتباع، بل للتفكير، لا للتقليد، بل لإعادة خلق أنفسنا، كل يوم، في مواجهة عالم باتت فيه الأخلاق أقنعة، وصارت الحقيقة عبئًا، والحرية مجازفة.
نيتشه، هايدغر، الأخلاق، الفلسفة الألمانية، إرادة القوة، الكينونة، الوجود، الفلاسفة الغربيون، تحليل فلسفي، فكر نيتشه، فكر هايدغر، نيتشه والأخلاق، هايدغر والأخلاق، فلسفة الأخلاق، الشخصيات الفلسفية