حين تُروى الأسئلة: ما قبل سقراط وما بعد الرواية.
السؤال لا يُولد في الكتب، بل يتخفى في العيون المفتوحة على العالم، في الارتباك الأول، في حيرة الطفل أمام الظلال.
في البدء لم تكن الفلسفة كتابًا، بل كانت سؤالًا على لسان شابٍ يمشي حافيًا بين الناس، لا يحمل قلمًا بل يحمل دهشة. قبل أن تُدوّن الأسئلة، كانت تُروى. كانت تمشي في الأسواق، تُحكى على الأرصفة، تُهمَس في أذن الحياة، ويُردّدها المارة بلا وعيٍ منهم أنهم ينقلون حكمةً لا تزال تتشكل. سقراط، الذي لم يكتب سطرًا، هو أول من فهم أن الفكر ليس نصًا بل موقف، ليس تعريفًا بل استدعاء للدهشة. قبل أن تصبح الفلسفة نظامًا وتخصصًا أكاديميًا، كانت سردًا حيًا، حوارًا، مشهدًا بشريًا كثيفًا، تنبع فيه الحكمة من الحيرة لا من التلقين.
بعد سقراط، دخلت الأسئلة في الكتب. كتبها أفلاطون بشغف المريد، ثم راح أرسطو يصنفها كما لو أنها علم. ومنذ تلك اللحظة بدأت الأسئلة تفقد بعض حيويتها: صارت فصولًا، أبوابًا، مقولات. لكنّ الرواية، من حيث لم تكن محسوبة على هذا المجال، أعادت إحياء السؤال. لا السؤال كإشكال منطقي بل كارتباك وجودي، كعجز الإنسان عن إدراك نفسه والآخر والعالم دفعة واحدة.
في الرواية، كما في الفلسفة الأولى، لا تُطرح الأسئلة لتُجاب. تُطرح لتُعاش. السؤال في الرواية لا يكون واضحًا كالذي نجده في مدخل فصل من كتاب فلسفة، بل يكون خافتًا، مخفيًا بين الحركات، بين صمت الشخصية وانفعالاتها. عندما ينهار كافكا على ورقة خائفة، أو حين يجرّ كامو شخصية ميرسو إلى حافة اللامعنى، فهما لا يقدمان أطروحة، بل يضعان القارئ أمام حفرة تساؤل لا قاع لها.
الفكر الروائي لا يُشبه المنطق الأرسطي، بل يُشبه التيه الذي ينفتح على احتمال لا نهائي للفهم، ولا نهائي لسوء الفهم أيضًا. حين تقرأ دوستويفسكي، لا تفكر في الخير والشر كأنهما معادلتان، بل كأنهما قلبان ينبضان داخل جسد واحد. هنا تصبح الرواية فخًّا للمنطق، وتُدخل القارئ في تجربة السؤال لا في استهلاك جوابه.
منذ ما قبل سقراط، والفلاسفة يطرحون الأسئلة على شكل مفارقات: من هو الإنسان؟ هل الحقيقة واحدة أم متعددة؟ ماذا يعني أن نعيش حياة جيدة؟ لكن هذه الأسئلة – حين تتحول إلى أدوات تحليل – تفقد طاقتها السردية. أما في الرواية، فإن هذه الأسئلة تعود، لا بصيغتها التنظيرية، بل بصيغتها المعاشة. يعود السؤال كعقدة وجود، لا كمقدمة لبرهان.
وهنا يكمن السرّ: الفلسفة قبل أن تكون خطابًا عقلانيًا كانت حسًا بالسؤال. والرواية، في لحظاتها الكبرى، تعيد إنتاج هذا الحس. القارئ لا يبحث في الرواية عن أطروحة، بل عن صوت يرتجف خلف الكلمات، عن قلق صامت لا يعثر على صيغة نهائية. وهذا ما يجعل الأدب الفلسفي ليس مجرد أدب يتحدث عن الفلسفة، بل أدب يُمارس الفلسفة دون أن يعلن عن ذلك.
حين تُروى الأسئلة، تفلت من قيد الأكاديمية، وتتحول إلى تجربة. وما الذي يجعل السؤال حيًا إن لم يكن أنه يُعاش؟ الرواية، بما تمنحه من عمق في التوصيف، ومن فسحة للتأويل، لا تُقدّم فكرة، بل تخلق فضاءً للفكرة كي تعيش فيه. ولهذا فإن أكثر القرّاء تعلقًا بالفكر الفلسفي، هم أولئك الذين تعرّفوا على هذه الأسئلة من خلال السرد، من خلال المعاناة الفردية لشخصية تمشي على حافة الجنون أو الفقد أو الغموض.
ما قبل سقراط، لم تكن الفلسفة علماً، كانت نمط حياة. ما بعد الرواية، قد لا تعود الفلسفة علمًا، بل تصبح سردًا جديدًا للقلق القديم. الرواية لا تُغني عن الفلسفة، لكنها تفتح لها دربًا مختلفًا، دربًا لا يُؤدي إلى المعرفة بقدر ما يؤدي إلى المعايشة. حين تُروى الأسئلة، تُكسر الحواجز بين القارئ والفيلسوف، وتُعاد صياغة الدهشة الأولى، تلك التي كانت تمشي في الأزقة القديمة لأثينا، أو تتسلل بين أسطر رواية حديثة مكتوبة في عزّ الحروب والتشظي.
والسؤال اليوم: ما الذي يجعل القارئ الحديث أكثر انشدادًا للرواية من الفلسفة؟ هل تعب من الصرامة أم من الغرور؟ هل يبحث عن معنى لا يُقدَّم على طبق منطقي، بل يُستشعر في صمت الشخصيات؟ إن القارئ في زمن الصور يريد أن يرى لا أن يُخبر، أن يتخيل لا أن يُلقّن. ولذلك فإن السؤال حين يُروى يصبح أكثر حضورًا، أكثر نفاذًا، لأن القصة لا تُعلم، بل تُذْهِلك، توقظ فيك شيئًا لا تدري كيف وُلد.
في زمن ما بعد الحقيقة، وما بعد الخطاب، تبقى الرواية قادرة على منح السؤال وجهًا إنسانيًا. السؤال الذي لم يعد يُطرح في قاعات الفلسفة، قد يُطرح على لسان شخصيةٍ منهارة في رواية هامشية، في حكاية قصيرة لا يعرف كاتبها أنه كتب فلسفة. لكنّ الفكر لا يحتاج أن يُصرّح بنفسه ليكون حاضرًا؛ يكفي أن يُحسّ، أن يُلمس، أن يُعاش.